فصل: مطلب: فِي تَفْسِيرِ دِينِ الْحَقِّ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الصفة الثالثة: من صفاتهم قوله تعالى: {وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ} وفيه وجهان: الأول: أنهم لا يحرمون ما حرم في القرآن وسنة الرسول.
والثاني: قال أبو روق: لا يعملون بما في التوراة والإنجيل، بل حرفوهما وأتوا بأحكام كثيرة من قبل أنفسهم.
الصفة الرابعة: قوله: {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} يقال: فلان يدين بكذا، إذا اتخذه دينًا فهو معتقده، فقوله: {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق} أي لا يعتقدون في صحة دين الإسلام الذي هو الدين الحق، ولما ذكر تعالى هذه الصفات الأربعة قال: {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} فبين بهذا أن المراد من الموصوفين بهذه الصفات الأربعة من كان من أهل الكتاب، والمقصود تمييزهم من المشركين في الحكم، لأن الواجب في المشركين القتال أو الإسلام، والواجب في أهل الكتاب القتال أو الإسلام أو الجزية.
ثم قال تعالى: {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صاغرون} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال الواحدي: الجزية هي ما يعطي المعاهد على عهده، وهي فعلة من جزى يجزى إذا قضى ما عليه، واختلفوا في قوله: {عَن يَدٍ} قال صاحب الكشاف قوله: {عَن يَدٍ} إما أن يراد به يد المعطي أو يد الآخذ، فإن كان المراد به المعطي، ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون المراد {عَن يَدٍ} مؤاتية غير ممتنعة، لأن من أبى وامتنع لم يعط يده بخلاف المطيع المنقاد، ولذلك يقال: أعطى يده إذا انقاد وأطاع، ألا ترى إلى قولهم نزع يده عن الطاعة، كما يقال: خلع ربقة الطاعة من عنقه.
وثانيهما: أن يكون المراد حتى يعطوها عن يد إلى يد نقدًا غير نسيئة ولا مبعوثًا على يد أحد، بل على يد المعطي إلى يد الآخذ.
وأما إذا كان المراد يد الآخذ ففيه أيضًا وجهان: الأول: أن يكون المراد حتى يعطوا الجزية عن يد قاهرة مستولية للمسلمين عليهم كما تقول: اليد في هذا لفلان.
وثانيهما: أن يكون المراد عن إنعام عليهم، لأن قبول الجزية منهم وترك أرواحهم عليهم نعمة عظيمة.
وأما قوله: {وَهُمْ صاغرون} فالمعنى أن الجزية تؤخذ منهم على الصغار والذل والهوان بأن يأتي بها بنفسه ماشيًا غير راكب، ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس.
ويؤخذ بلحيته، فيقال له: أد الجزية وإن كان يؤديها ويزج في قفاه، فهذا معنى الصغار.
وقيل: معنى الصغار هاهنا هو نفس إعطاء الجزية، وللفقهاء أحكام كثيرة من توابع الذل والصغار مذكورة في كتب الفقه.
المسألة الثانية: في شيء من أحكام هذه الآية:
الحكم الأول:
استدللت بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالذمي والوجه في تقريره أن قوله: {قاتلوهم} يقتضي إيجاب مقاتلتهم، وذلك مشتمل على إباحة قتلهم وعلى عدم وجوب القصاص بسبب قتلهم، فلما قال: {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صاغرون} علمنا أن مجموع هذه الأحكام قد انتهت عند إعطاء الجزية، ويكفي في انتهاء المجموع ارتفاع أحد أجزائه، فإذا ارتفع وجوب قتله وإباحة دمه، فقد ارتفع ذلك المجموع، ولا حاجة في ارتفاع المجموع إلى ارتفاع جميع أجزاء المجموع.
إذا ثبت هذا فنقول: قوله: قاتلوا الموصوفين من أهل الكتاب يدل على عدم وجوب القصاص بقتلهم وقوله: {حتى يُعْطُواْ الجزية} لا يوجب ارتفاع ذلك الحكم، لأنه كفى في انتهاء ذلك المجموع انتهاء أحد أجزائه وهو وجوب قتلهم، فوجب أن يبقى بعد أداء الجزية عدم وجوب القصاص كما كان.
الحكم الثاني:
الكفار فريقان، فريق عبدة الأوثان وعبدة ما استحسنوا، فهؤلاء لا يقرون على دينهم بأخذ الجزية، ويجب قتالهم حتى يقولوا لا إله إلا الله، وفريق هم أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى والسامرة والصابئون، وهذان الصنفان سبيلهم في أهل الكتاب سبيل أهل البدع فينا، والمجوس أيضًا سبيلهم سبيل أهل الكتاب، لقوله عليه السلام: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» وروي أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، فهؤلاء يجب قتالهم حتى يعطوا الجزية ويعاهدوا المسلمين على أداء الجزية، وإنما قلنا إنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، لأنه تعالى لما ذكر الصفات الأربعة، وهي قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} قيدهم بكونهم من أهل الكتاب وهو قوله: {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} وإثبات ذلك الحكم في غيرهم يقتضي إلغاء هذا القيد المنصوص عليه وأنه لا يجوز.
الحكم الثالث: في قدر الجزية.
قال أنس: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل محتلم دينارًا، وقسم عمر على الفقراء من أهل الذمة اثني عشر درهمًا، وعلى الأوساط أربعة وعشرين، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين.
قال أصحابنا: وأقل الجزية دينار، ولا يزاد على الدينار إلا بالتراضي، فإذا رضوا والتزموا الزيادة ضربنا على المتوسط دينارين، وعلى الغني أربعة دنانير، والدليل على ما ذكرنا: أن الأصل تحريم أخذ مال المكلف إلا أن قوله: {حتى يُعْطُواْ الجزية} يدل على أخذ شيء، فهذا الذي قلناه هو القدر الأقل، فيجوز أخذه والزائد عليه لم يدل عليه لفظ الجزية والأصل فيه الحرمة، فوجب أن يبقى عليها.
الحكم الرابع:
تؤخذ الجزية عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى في أول السنة، وعند الشافعي رحمه الله تعالى في آخرها.
الحكم الخامس:
تسقط الجزية بالإسلام والموت عند أبي حنيفة رحمه الله، لقوله عليه الصلاة والسلام: «ليس على المسلم جزية» وعند الشافعي رحمه الله لا تسقط.
الحكم السادس:
قال أصحابنا: هؤلاء إنما أقروا على دينهم الباطل بأخذ الجزية حرمة لآبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل وأيضًا مكناهم من أيديهم، فربما يتفكرون فيعرفون صدق محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته، فأمهلوا لهذا المعنى، والله أعلم.
وبقي هاهنا سؤالان:
السؤال الأول: كان ابن الراوندي يطعن في القرآن ويقول: إنه ذكر في تعظيم كفر النصارى.
قوله: {تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدًّا أَن دَعَوْا للرحمن وَلَدًا وَمَا يَنبَغِى للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 90 92] فبين أن إظهارهم لهذا القول بلغ إلى هذا الحد، ثم إنه لما أخذ منهم دينارًا واحدًا قررهم عليه وما منعهم منه.
والجواب: ليس المقصود من أخذ الجزية تقريره على الكفر، بل المقصود منها حقن دمه وإمهاله مدة، رجاء أنه ربما وقف في هذه المدة على محاسن الإسلام وقوة دلائله، فينتقل من الكفر إلى الإيمان.
السؤال الثاني: هل يكفي في حقن الدم دفع الجزية أم لا؟
والجواب: أنه لابد معه من إلحاق الذل والصغار للكفر والسبب فيه أن طبع العاقل ينفر عن تحمل الذل والصغار، فإذا أمهل الكافر مدة وهو يشاهد عز الإسلام ويسمع دلائل صحته، ويشاهد الذل والصغار في الكفر، فالظاهر أنه يحمله ذلك على الانتقال إلى الإسلام، فهذا هو المقصود من شرع الجزية. اهـ.

.قال الجصاص:

{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دَيْنَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}
أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ مَعَ إظْهَارِهِمْ الْإِيمَانَ بِالنُّشُورِ وَالْبَعْثِ، وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْرِي حُكْمُ اللَّهِ فِيهِ مِنْ تَخْلِيدِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي النَّارِ، وَتَخْلِيدِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ، فَلَمَّا كَانُوا غَيْرَ مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِيهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمُرَادُهُ حُكْمُ يَوْمِ الْآخِرِ، وَقَضَاؤُهُ فِيهِ، كَمَا تَقُولُ أَهْلُ الْكِتَابِ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ بِالنَّبِيِّ، وَالْمُرَادُ بِنُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ: فِيهِ إنَّهُ أَطْلَقَ ذَلِكَ فِيهِمْ عَلَى طَرِيقِ الذَّمِّ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يُقِرُّ بِهِ فِي عِظَمِ الْجُرْمِ، كَمَا إنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِكُفْرِهِمْ الَّذِي اعْتَقَدُوهُ.
وَقِيلَ: أَيْضًا: لَمَّا كَانَ إقْرَارُهُمْ عَنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إيمَانًا، وَأَكْثَرُهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ.
وقوله تعالى: {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} فَإِنَّ دِينَ الْحَقِّ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَقال الله تعالى: {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} وَهُوَ التَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ، وَالِانْقِيَادُ لَهُ، وَالْعَمَلُ بِهِ، وَالدِّينُ يَنْصَرِفُ عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا الطَّاعَةُ، وَمِنْهَا الْقَهْرُ، وَمِنْهَا الْجَزَاءُ؛ قَالَ الْأَعْشَى: هُوَ دَانَ الرَّبَابَ اُذْكُرْ هُوَ الدِّي نُ دِرَاكًا بِغَزْوَةٍ وَصِيَالِ يَعْنِي: قَهَرَ الرَّبَابَ إذْ كَرِهُوا طَاعَتَهُ وَأَبَوْا الِانْقِيَادَ لَهُ.
وقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قِيلَ: إنَّهُ يَوْمُ الْجَزَاءِ، وَمِنْهُ: كَمَا تَدِينُ تُدَانُ.

.مطلب: فِي تَفْسِيرِ دِينِ الْحَقِّ:

وَدِينُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى غَيْرُ دِينِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُنْقَادِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَلَا طَائِعِينَ لَهُ لِجُحُودِهِمْ نُبُوَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهُمْ يَدِينُونَ بِدِينِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَيَعْتَرِفُونَ بِهِ مُنْقَادِينَ لَهُ.
قِيلَ: لَهُ: فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ذُكِرَ نَبِيُّنَا، وَأُمِرْنَا بِالْإِيمَانِ وَاتِّبَاعِ شَرَائِعِهِ، وَهُمْ غَيْرُ عَامِلِينَ بِذَلِكَ بَلْ تَارِكُونَ لَهُ، فَهُمْ غَيْرُ مُتَّبِعِينَ دِينَ الْحَقِّ، وَأَيْضًا فَإِنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ قَدْ نُسِخَتْ، وَالْعَمَلُ بِهَا بَعْدَ النَّسْخِ ضَلَالٌ فَلَيْسَ هُوَ إذًا دِينَ الْحَقِّ.
وَأَيْضًا فَهُمْ قَدْ غَيَّرُوا الْمَعَانِيَ وَحَرَّفُوهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا، وَأَزَالُوهَا إلَى مَا تَهْوَاهُ أَنْفُسُهُمْ دُونَ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ كُتُبُ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُمْ غَيْرُ دَائِنِينَ دِينَ الْحَقِّ.
قوله تعالى: {مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ الْكُفَّارِ هُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِقوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} فَلَوْ كَانَ الْمَجُوسُ أَوْ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَكَانُوا ثَلَاثَ طَوَائِفَ، وَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ طَائِفَتَانِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ أَيْضًا فِي حُكْمِ الصَّابِئِينَ، وَهَلْ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ أَمْ لَا، وَهُمْ فَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: بِنَوَاحِي كَسْكَرَ وَالْبَطَائِحَ، وَهُمْ فِيمَا بَلَغْنَا صِنْفٌ مِنْ النَّصَارَى، وَإِنْ كَانُوا مُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ دِيَانَاتِهِمْ؛ لِأَنَّ النَّصَارَى فِرَقٌ كَثِيرَةٌ مِنْهُمْ الْمَرْقُونِيَّةُ والْآرْيُوسِيَّةُ، وَالْمَارُونِيَّةُ، وَالْفِرَقُ الثَّلَاثُ مِنْ النَّسْطُورِيَّةِ وَالْمَلْكِيَّةِ، وَالْيَعْقُوبِيَّةِ يَبْرَءُونَ مِنْهُمْ، وَيُحَرِّمُونَهُمْ، وَهُمْ يَنْتَمُونَ إلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، وَشِيثٌ، وَيَنْتَحِلُونَ كُتُبًا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا كُتُبُ اللَّهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى شِيثِ بْنِ آدَمَ، وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا،، وَالنَّصَارَى تُسَمِّيهِمْ يُوحَنَّاسِيَّةَ؛ فَهَذِهِ الْفِرْقَةُ يَجْعَلُهَا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَيُبِيحُ أَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ، وَمُنَاكَحَةَ نِسَائِهِمْ.
وَفِرْقَةٌ أُخْرَى قَدْ تَسَمَّتْ بِالصَّابِئِينَ، وَهُمْ الْحَرَّانِيُّونَ الَّذِينَ بِنَاحِيَةِ حَرَّانَ، وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ، وَلَا يَنْتَمُونَ إلَى أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا يَنْتَحِلُونَ شَيْئًا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ، فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا أَهْلَ الْكِتَابِ.
وَلَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ النِّحْلَةَ لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ، وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ، فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي جَعْلِهِ الصَّابِئِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَحْمُولٌ عَلَى مُرَادِهِ الْفِرْقَةَ الْأُولَى.
وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَقَالَا: إنَّ الصَّابِئِينَ لَيْسُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَمْ يُفَصِّلُوا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ.
وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ بَيْنَ التَّابِعِينَ.
وَرَوَى هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا مُطَرِّفٌ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ الْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ فَحَدَّثَهُ رَجُلٌ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الصَّابِئِينَ هُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَجُوسِ، فَقَالَ الْحَسَنُ: أَلَيْسَ قَدْ كُنْت أَخْبَرْتُكُمْ بِذَلِكَ؟ وَرَوَى عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ عَنْ الْحَجَّاجِ عَنْ الْقَاسِمِ بْن أَبِي بَزَّةَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الصَّابِئُونَ قَوْمٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ.
وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الصَّابِئِينَ أَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ هُمْ وَطَعَامُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ حِلٌّ لِلْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ.
وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَلَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ بِدَلَالَةِ الْآيَةِ وَلِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ»، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ مِنْ الْكُفَّارِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَوَازِ إقْرَارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِالْجِزْيَةِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: «لَا يُقْبَلُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ، وَتُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْعَرَبِ، وَمِنْ سَائِرِ كُفَّارِ الْعَجَمِ الْجِزْيَةُ».